أحكام الإسلام

اختلاف الفقهاء ( أسبابه وثمراته )

اختلاف الفقهاء

اهتم المسلمون بالعلوم بشكل عام ومنها علوم الشريعةِ، وظهر كثيرٌ مِنَ العلماء في مختلف مجالات العلم كالطب والفَلَكِ، وكانَ منهم بارزين في بعض العلوم كعلم الكيمياء والجبر، وقد ترك العلماء المسلمونَ ثروةً علميةً في جميع المجالاتِ، واشتهر في العلوم الشرعية الفقهاء الأربعة، الذينَ صارَ لهم طلَّابُ عِلْمٍ وتلاميذ، نشروا مذاهبهم في مناطق واسعةٍ منَ البلدان الإسلامية، وفي الوقت نفسه وُجِدَ علماء آخرون مجتهدون كثيرون، لكن مذاهبهُمْ لم تشتهر، ولا يُعقل مِنْ هَذا العدد الكبير منَ العلماء أنْ يتفقوا على جميع المسائل، بل  اتفقوا في مسائل واختلفوا في أخرى، وهذا الاختلافُ بينَ الفقهاء لا ضرر فيه، لأنَّه في الفروع، وليس في الأصول أو الأركان.

الفرق بين الاختلاف والخلاف

– الاختلاف ظاهرة إيجابيّة وضرورية، فهو اختلاف في وجهات النظر، ويجب أن يؤدي إلى انسجام وتعايش وسببه التفاوتُ في الأفهام والمصادر، ففيه تقبل للآخرين وتقبل آرائهم رغم اختلاف آرائهم ومذاهبهم.

أما الخلاف أمر مذموم، يعني عدم تقبل الآخرين ولا تقبل آرائهم ويجب الحذر منه والابتعاد عنه، ويؤدي إلى النفور والفراق بل والكراهية والشجار، وسببه الهوى ويؤدي غالبًا ما يؤدّي إلى التنازع والصدام والتقليد والتعالي والتعصب.

أسباب اختلاف الفقهاء

كانَ الفقهاء رحمهم الله إذا اختلفوا في حكم مسألة فقهية كل منهم له وجهة نظر مختلفة في بيان الدليل والحجة التي استند عليها في بيان حكمه في تلك المسألة، وقد يرجع بعضهم إلى قول بعض، ولم يُؤَد ذلك إلى التباغض  أو الهجر أو الفرقة بينهم، ولهذا الاختلاف عدة أسباب، منها:

1. التفاوُتُ والتباين في فهم الأدلة واستنباط الأحكام منها:

تميز بعض الفقهاء بقدرة عالية على الفهم، وظهرت قدرات آخرين في الحفظ، وجَمَعَ بعضُهم بينهما، ونتيجةً لهذا التفاوت يقع الاختلاف في استنباط الأحكام، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( رُبَّ حَامِلِ فِقْهِ إِلَى مَنْ هُوَ أَفقَهُ منه، ورُبَّ حامل فقه ليس بفقيه) [أبو داود والترمذي].

ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (مَنْ جَرَّ ثوبَهُ خُيَلاءَ لم يَنْظُرِ الله إليه يوم القيامة، قال أبوبكر يا رسول الله، إنَّ أحدَ شِقّي إزاري يسترخي إلا أنْ أتعاهَدَ ذلك مِنْهُ، فقال النبي الله لستَ مِمَّنْ يصنَعُهُ خُيلاء) [البخاري ومسلم]، وحديثُ: (ما أسفَلَ مِنَ الكعبين مِنَ الإِزارِ فَفي النارِ) [البخاري ومسلم]. فاختلف العلماء في فهم الحديثين، فمِنَ العلماءِ مَنْ فَهِمَ التحريم مطلقًا، ومنهم مَنْ حَصَرَ التحريم بالخُيَلاءِ.

اقرأ أيضاً  مقاصد الشريعة الخمسة

2. اتساع معاني اللغة وتعدد دلالاتها:

مثل أن يرد في كلام الشرع لفظ مشترك، وهو ما وضع لمعان متعددة مختلفة، فيختلف الفقهاء في حمل ذلك اللفظ على المعنى المقصود به، اختلاف الفقهاء في مقصود الشرع من لفظ ” الْقُرْء في قوله تعالى:

( وَالمُطَلَقَاتْ يتربَصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُروء ) البقرة: 128، فلفظ “القرء” مشترك بينَ الطَّهر والحَيْضِ، فاختلَفَ الفُقَهَاءُ نتيجةً لذلك في عدة المطلَّقَةِ هَلْ تَكونُ بِالْحِيضِ أو تكونُ بالأطهارِ.

3. اختلاف طرق وصول الحديث الشريف:

مثل ألا يصل الحديث إلى الفقيه  فلا يعمل به  أو يصل لكن بإسناد ضعيف أو يصل الحديث لبعض الفقهاء لكن بلفظ مغاير فيتغير معنى الحديث عنده .

4. الاختلاف في القواعد الأصولية وضوابط الاستنباط:

لهذا السبب كثير مِنَ الاختلافات الفقهية؛ لأنَّه متعدد الجوانب، مثال ذلك: القاعدة الأصولية التي اختلف فيها الفقهاء: هل الأمرُ المُطلقُ يُفيدُ الفَوْرَ أَم التراخي؟

فقالَ جمهورُ الفُقَهَاءِ إِنَّ الأمر المطلق يُفيدُ الفورية، وخالفهم الحنفية فقالوا: يُفيد التراخي. – قال الله تعالى: ﴿ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَامٍ أُخَرَ) [البقرة: 184)، أفادتْ هَذِهِ الآيةُ الأمرَ بقضاء الصوم لِمَنْ أَفْطَرَ في رمضان، ونتيجةً لاختلاف الفقهاء في قاعدة الأمرِ المُطلق السابقة اختلفوا في مسألة فقهية، وهي حكم صيام النفل لمن كانَ عليه قضاءُ مِنْ رمضانَ.

نتيجة اختلاف الفقهاء في قاعدة الأمر المطلق على هذه المسألة:

– جمهور الفقهاء يرون: المسارعة إلى القضاء، ولا يجوز ولا يصح صوم النفل حتى تؤدى الفريضة, لأن الأمر ورد في الآية الكريمة يوجب على الفور.

أما الحنفية: فيرون أن القضاء على التراخي، فله أن يصوم ما شاء من النوافل والتطوع , لأن الأمر في الآية الكريمة ليس على  الفور ولكن على التراخي.

عن عبد الوارث بن سعيد قالَ: “قَدِمْتُ الكوفة فسألْتُ أبا حنيفة عن رجل باعَ بيعًا وشَرَطَ شرطًا ؟ فقالَ: “نَهَى سول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط، البيع باطل والشرط باطل. ثم أتيتُ ابْنَ أَبي ليلى فأخبرتُهُ فَقالَ: عن عائشةَ رَضِيَ الله عنها قالت: “أمرني رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أن أشتري بريرة واشترط فأُعتقها”، البيع جائز والشرط باطل. ثم أتيتُ ابْنَ شبرمة فأخبرته فقال: عَنْ جابر بن عبد اللهِ قالَ: “بِعْتُ النبي صلى الله عليه وسلم ناقة، وشرطتُ حملانها إلى المدينة”، البيعُ جائز والشرط جائز” [الهيثمي في مجمع الزوائد].

•  ففي هذه المواقف مبدأ من مبادئ اختلاف الفقهاء:

أن اختلاف الفقهاء لا يكون إلا بناء على دليل يراه كل فقيه، وليس على الرغبات والأهواء.

اقرأ أيضاً  الغسل

ثمرات الاختلاف

1-الرحمةُ والسَّعَةُ للناس: إِنَّ تعدُّدَ آراء العلماء في المسائلِ المختلفةِ جعل للمسلمين سعةً في اختيار الرأي الأنسب والأصلح لحل المسائل وفق الأدلة الشرعية؛ تحقيقًا لمبدأ رفع الحرج والضيق، ولهذا عندما اختلف الصحابة رضي الله عنهم،  والفقهاء من بعدهم لم يضيقوا ذَرْعًا بالخِلافِ، قَالَ عُمَرُ بنُ عبدِ العَزِيزِ رحمه الله: “مَا يَسرُّني أَنَّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا, لأن العلماء لـو لم يختلفوا  لشق الأمر علينا ولم تكُنْ لنا رخصةً” .

2- وجود ثروة فقهية: نتيجة اختلافِ العلماء، ومحاولة كل فقيه إثبات صحة رأيه، ودفاعه عما يراه صحيحًا  بالأدلة، فتكونتْ ثروةٌ فقهيةٌ  هائلة في جميع مجالاتِ الفقه والحديث وأصول الفقه واللغة.

3- التشجيع على البحث والابتكار والإبداع: فنتيجةً لاختلافِ العُلماءِ سَعَى كل فريق للبرهنة على صحة رأيهِ وإثباتِهِ بأكثر من طريق؛ مما تطلبَ مِنَ العُلماءِ زيادةَ البحث والنَّظَرِ.

أقسام الناس تجاه الفقه

– الناس تجاه الفقه على ثلاثة أقسام:

الأول: أنْ يكونَ عالمًا بَلَغَ درجة الاجتهاد، فهو يجتهد من خلال الأدلة المختلفة والنظر فيها.

الثاني: أن يكونَ طالب علم لم يصل لدرجة الاجتهاد، فعليه أن يتبع العلماء المجتهدين، ويبحث ويجتهد ليتدرج في العلم.

الثالِثُ: أن يكونَ عاميًّا لم يَدْرُسُ عِلْمَ الفقه؛ فإِنَّهُ يسألُ العلماء الذين يَثقُ في دينِهِمْ وعلمهم دونَ حجةٍ؛ لقولهِ تعالى: ( فَاسألُوا أَهْلَ الذِكرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 43].

موقف المسلم مِن اختلاف العلماء

1- الإفادةُ مِنَ الثروة الفقهية التي تَرَكَها العلماء من فتاوى واجتهادات وآراء وتفسير للقرآن وشروح للحديث الشريف، احترام آراء العُلماءِ الثَّقاتِ، والترحم عليهم، والتِماسُ الأعذارِ لهم إِذا أَخْطَأُوا.

2. تقديم الدليل الصحيح مِنَ القرآن والسنة على رأي إنسان إن تَعَارَضًا، وكان هذا حال العلماءِ دائمًا، قالَ الإمام مالك رحمه الله: ” إِنَّمَا أَنا بشرٌ أُصيبُ وأُخْطِئُ فَاعْرِضُوا قولي على القرآن والسنة”، إِلَّا أَنَّ هذا خاص ومُوَجَّهُ للعلماء, فليسَ كُلُّ مَنْ قرأَ نصًا أخذَ بظاهرِهِ من غير علم، وترك أقوال الفقهاء، وألغَى مذاهبهُمْ.

3 – التحلي بأخلاق العلماء عند الاختلاف، مِنَ حُسْنِ الظن والسماحةِ والترحم، والتواصل معهم، وذِكْرِهم بالخير ، يقولُ يونُسُ الصدفي: “ما رَأَيْتُ أعقلَ مِنَ الشافعي، ناظرتُهُ يومًا في مسألةٍ، ثُمَّ افترقْنَا، وَلَقِيتُهُ فَأَمسك بِيَدِي، ثُمَّ قَالَ: يا أبا موسَى، أَلا يستقيم ويصلح أن نكونَ إخوانًا وإنْ لم نتفق في مسألةٍ” (تاريخ دمشقَ).

– قال مالك بن أنس – رحمه الله -: ” لَمَّا حجّ المنصور قالَ لي: إِنِّي قد عَزَمْتُ عَلَى أَنْ آمُرَ بِكتبِكَ هَذِهِ التِي وضعتها فتُنْسَخَ، ثُمَّ أَبْعَثَ إِلى كُلِّ مِصرٍ ( بلد) مِنْ أمصار  (بلدان) المسلمين منها نُسخةً، وَآمُرَهُم أَن يَعْمَلُوا بما فيها، ولا يتعدَّوْهُ إلى غيره، فقُلْتُ: يا أمير المسلمين، لا تفعل هذا؛ فإنَّ الناس قد سَبَقَتْ إليهم أقاويل، وسَمِعُوا أحاديثَ، وَرَوَوْا روايات، وأخَذَ كُلُّ قوم بما سبق إليهم، ودَانُوا بِهِ من اختلافِ الناسِ، فَدَع الناس وما اختار أهلُ كُلَّ بلدٍ مِنْهُ لأنفسهم” (طبقات ابن سعد].

اقرأ أيضاً  تلاحم المجتمع ( مفهومه ومجالاته)

• دل موقف الإمام مالك على أدبا من آداب الاختلافِ:

هو عدم إجبار الناس على رأي واحد، انطلاقا من إيمان صاحبه بأنه هو الصواب مادامت المسألة مختلفًا فيها.

نستفيد مما سبق:

• أن من سَمِعَ فتوى لأحد العلماءِ تُخالِفُهُ الرَّأْيَ، فتطاوَلَ عليهِ بالكلام:

–  هذا خطأ ووجه الخطأ: التطاول على أهل العلم- التصرُّفُ الصحيح أن يقرب وجهات النظر ، وينقد رأيهم بالدليل أو يطلب الدليل.

 • وأن من تقدَّم بشكوى ضد إمام المسجد؛ لأنَّه لا يجهر بالبسملة في قراءة الفاتحة، ولا يدعو دُعاءَ القُنوتِ في صلاة الفجرِ. –  ليس هذا صحيح وَجْهُ الخطأ: أن يضخم المسألة وأن يلزم الآخر برأيه . – التصرُّفُ الصحيح أن يحاور الإمام وأن يعرف أن المسألة خلافية.

• ومن يستفتي أكثر من عالِم في مسألة خلافيةٍ واحدةٍ حتَّى يُفْتَى بالقولِ المحبَّبِ إِلى نفسِهِ:

 ففي هذا خطأ, لأن تتبعَ رخص العلماء, والصحيح أن يأخذ بإجابة من يثق بعلمه.

الناس والفتوى

يجترئ الكثيرون على الفتوى في أمور الدين، سواء بعلم أو بغير علم، فالبعض ربما يقرأُ كتابًا أو يسمعُ محاضرةً أو مقابلةً أو فتوى لأحد العلماءِ، فَيُنَصِّب نفسه مجتهداً، ويبدأ بإطلاقِ الفتاوَى، فيُضِلُّ كثيرينَ، ويُسيء لكثيرينَ ، وقد ظلم نفسَهُ عندما تكلّف أمرًا قَدْ كُفِيَهُ، قال تعالى: ( لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَمَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ﴾ [النحل:25].

إِنَّ الفتوى أمر عظيم، لا بدَّ أنْ يُؤْخَذَ مِنْ أهلِهِ ومصدره الموثوق، خاصةً فيما يُهم المجتمع، ويتعلق بحياة الأفراد ومستقبل الأجيال.

وقد أنشأت الدولة مركزًا للفتوى هو (المركز الرسمي للإفتاء)، يتولَّى فيهِ الإجابة عن أسئلة الناس علماء مؤهلون، ومخوّلونَ مِنْ قِبَلِ ولي الأمرِ، وَجعلَتْ الاتصال بالمركز مَجَانًا؛ لكي لا يتردَّدَ أحدٌ في السؤال عما يريد، بالإضافة إلى المراكز والهيئات والمؤسسات والدوائر الرسمية، التي تُمثْلُ دولة الإمارات العربية المتحدة، والتي تختص بهذا الأمر، وهذا يُجَنَّبُ المجتمع والفرد الوقوع في فَجٍّ أصحاب الأهواءِ وَالْمُغْرِضِينَ، وَكذلك أصحاب المواقع المشبوهة على مواقع التواصل، وبعضُ وسائل الإعلام التي لا يُعْرَفُ لَا تنشر القيم وليس لها هدف أو هوية واضحة.

‫3 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى