التسامح الفكري (مفهومه وآثاره)
التسامح الفكري (مفهومه وآثاره)
قالَ تَعَالَى: ( إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابئين وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يوْمَ الْقِيِّمَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيء وشَهِيدُ)
العقائد المذكورة في الآية السابقة:
1. الذين ءامنوا ( الإسلام ).
2.الديانة اليهودية .
3. والصابئين وهم: جماعة كانوا على دين سيدنا إبراهيم عبدوا الكواكب والنجوم فأطلق عليهم الصابئة بسبب خروجهم عن دين نبيهم.
4. الديانة النصرانية ( وهم قبل الإسلام).
5. العقيدة المجوسية ( وهم عبدة النار).
6.والذين أشركوا: (الذين يعبدون الأصنام).
7. دلالة قوله تعالى: ( إن اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )
إقرار بأن البشر مختلفون في معتقداتهم، والله تعالى يقضي بين الناس ويحاسبهم يوم القيامة بعدله تعالى، ولهم الحق في العيش في الدنيا بأمان دون إجبار على اعتناق المعتقدات.
مفهوم التسامح الفكري:
التسامح هو: احترام حق الآخرينَ في التّمتّع بحرياتهم وبحقوقهم وثقافاتهم، من غير تعصب، ولا يقابله انغلاق عقلي، فالإسلام يرفضُه ويذمه، سواء أكان من أجل مذهب أم فكر، أمْ كان من أجل جماعةٍ، فالتّسامح وكأنه إقرارًا بأنَّ البشر مختلفونَ في معتقداتهم وأفكارهم، ولهم الحق في العيش بأمان دونَ فرض للآراء، أو إجبارٍ على اعتناق المعتقدات، قال تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ) (البقرة 256)، فالاختلاف واقع حتمي، وسنة إلهية، قال تعالى: ( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ) (هود) فقد تعايش المسلمون على مر القرونِ معَ مختلف العقائدِ والأفكار في مجتمع واحد، ونظروا إلى مَنْ يخالفهم في العقيدة نظرةً معتدلةً، يسودها العدل، وتعمها الرحمة, وأساسها احترام كرامة الإنسان.
حدود التسامح:
إنَّ التسامح له حدود، فليس معنى التسامح قبول الإهانة أو الاستهانة بالدين أو العدوان منَ الآخرين، أو تخلّي المسلم عن معتقداته والتهاون بشأنها، وفي نفس الوقت لا نُسفّهُ الآخرينَ، ولا نُحقرُ من معتقداتهم، وإنّما نجادلهم ونحاورهم بالتي هي أحسنُ.
آثار التسامح:
إن التسامح مفتاح من مفاتيح الخير، ومن أبرزِ التي يمكن أن تتحقق ما يأتي:
1.استقرار وأمن المجتمع من خلال تحقيقِ الاحترام المتبادل بين الأديان والتّوافق الاجتماعي والطوائف والمذاهب.
2.احترام حقوق الإنسان كحرية اختيار العقيدة والفكرِ، وحريات الإنسان وحقوقه وحقِّ النَّاسِ في حفظ أموالهم ودمائهم، كرامتهم كرامتهم، وأعراضهم، وغيرها منَ الحريات والحقوق والتي كفلها الإسلام، قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: ( مَن قتل نفسًا معاهدًا لم يَرَحْ رائحة الجنة – أي لمْ يشم رائحتها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما). (رواه البخاري)
3.تحقيق المنافع والمصالح يقولَ تَعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى(2) (المائدة)، فتقوية قيم التسامح والتعايش يتيحُ الفرصة للتعاون وتبادل المنافع والعلوم تبادلا قائمًا على الاحترام والمتبادل، والانتفاع مما يقدمه الآخرون للمجتمع من خدماتٍ في مختلف المجالات، والتي تساهم في تطوّرِ الدولة وتقدمها، قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ فَحَيْثُ وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا) (رواه الترمذي).
4. تقديم الصورة المشرقة للإسلام: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( بُعثتُ بالحَنفية السمحة» (رواه أحمد)، فقد جمع صلى الله عليه وسلم بين كونها سمحة وبين كونها حنيفية، فهي حنيفيّةٌ في التَّوحيد والعقيدة، سمحة في الأخلاق والتسامح، وهذه السماحةُ تتيحُ الفرصة للتّجار، وطلاب العلم، والسائحين، وغيرِهم من زوّارِ الدّولة بغضّ النظر عن أفكارهم ومعتقداتهم، لتعرّف أخلاقِ المسلمين، وحقيقة الإسلام، والتغلب على ما يبته دعاة العنف والتعصب والتمييز والكراهية، من محاولات تشويه صورة الإسلام السمحة.
المبادئ التي يقوم عليها التسامح:
1- تكريمُ الإنسانِ دونَ النّظر إلى لونه أو جنسه أو دينه أو فكره:
قالَ تَعَالَى: ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي عَادَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ…. ).
2- الرّحمةُ والرّفقُ واللَّينُ:
قالَ تَعَالَى: ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةُ لِلْعَالَمِينَ ).
3- الإحسان إلى الآخرين قال تعالى:
( لَا يَنهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ).
4- الإسلام لا يُكره أحدًا على الدّخولِ فيه:
قالَ تَعَالَى: ( ….. أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ).
5- حوارُ المخالفين بالحسنى ونبذ العنف:
قالَ تَعَالَى: ( وَلَا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتَبِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) .
6- التسامح والعفو يحوّلان العداوة إلى محبّةٍ قالَ تَعَالَى:
( وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِأَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ).
7- التّوازن والاعتدال والتّوسّط: قال تعالى: ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَكُمْ أُمَّةً وَسَطًا )
8- دورُ العبادةِ لجميع الأديانِ محترمة، ويجب حمايتها والمحافظة عليها قالَ تَعَالَى:
( وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لهدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا )
9- العدالة في معاملة الآخرينَ وصيانة حقوقهم:
قال تعالى: ( وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئانُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ).
صور وأمثلة على التسامح:
صور التسامح في القرآن الكريم
شرع الإسلام من الأحكام ما يُقرِّبُ العلاقة بين أهل الكتاب والمسلمينَ، فأجاز أكل طعامهم، والزواج من نساء أهل الكتاب، وفي هذا دعوة لتقوية روابط المودّة معهم، وهذا يُعدُّ مظهرا قويا للتسامح الديني، حيثُ يمكنُ أنْ تكونَ زوجة المسلم وأم أولاده ورفيقة حياته كتابية، ويصبحَ أهلها أنساباً وجدات، وأخوالا وخالات لأولاده. قال تَعَالَى: ( وَإِن جَهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَى ثُمَّ إِلَى مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) (لقمان (15) وتتجلى في هذهِ الآية الكريمة صورةُ التّسامح في القرآن الكريم مع غير المسلمين، واضحةً مشرقةً، فقد أمرَ اللهُ تَعَالى الابنُ المسلم بالإحسان إلى والديه المشركين، حتّى وإن حرصا على صد ابنهما عن الإسلام، وثَنْيه عن قبول الحقِّ.
نماذج للتسامح في السنة النبوية الشريفة:
إنَّ سيرة النبي فيها النماذج الكثير للتطبيق العملي لمبدأ التسامح الذي دعا إليه القرآن، فكان عليه السلام مثالاً للبر ولعدل والإحسان في التعامل مع النّاسِ جميعًا، كان عليه السلام يحسن معاملتهم يعود مرضاهم، ويواسيهم في أحزانهم.
1.رُوي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: (عادَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم غلامًا كانَ يخدمُهُ يهوديًا). (رواه أحمد )
2. كانَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ, وَقَيْسُ بْنُ سَعْدٍ قَاعِدَيْنِ بِالقَادِسِيَّةِ, فَمَرُّوا عَلَيْهِمَا بِجَنَازَةٍ’ فَقَامَا, فَقِيلَ لَهُمَا إِنَّهَا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ أَيْ مِنْ أَهْلِ الذَّمَّةِ, فَقَالَا: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّتْ بِهِ جِنَازَةٌ فَقَامَ, فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهَا جِنَازَةٌ يَهُودِيٌّ, فَقَالَ ( النبي ): ( أَلَيْسَتْ نَفْسًا). (صحيح البخاري)
نماذج من تسامح المسلمين على مر القرون:
لقد دعا القرآن إلى التسامح، وأمر به رسولنا الله ، وأصبح التسامح سمة ظاهرة المجتمع في عهد النبي وطبقه من بعده الصّحابة رضوان الله عليهم حتى وقتنا الحاضر.
1- طبقه سيدنا عمر بن الخطاب معَ أهلِ القدسِ فكان خير مثال على تسامح المسلمين مع غيرِهمْ منَ المخالفين لهم في الدِّينِ، قالَ ميشود في كتابه تاريخ الحروب الصليبية: ( لم يمس عمر بن الخطابِ النّصارى بسوء حين فتح القدس، فكتب عمرُ بنُ الخطَّابِ رَض الله لأهل إيلياء – القدس- معاهدةً جاء فيها: (هذا ما أعطاه عمرُ أمير المؤمنينَ، أهلَ إيلياءَ منَ الأمان، أعطاهم أمانًا على الأنفس، والكنائس والصلبان، لا تُهدَمُ، لا تُسكَنُ كنائسهم، ولا يُنتقَصُ منها ، ولا يكرهون على دينهم، ولا يُضارُّ أحد منهم”.
2- كتب الخليفة عمر بن عبدالعزيز إلى أحد ولاته رسالة جاءَ فيها:
أما بعد, فانظر أهلَ الذِّمِّةِ ( أهل الكتاب ) فارفق بهم، وإذا كَبُرَ الرّجلُ منهم، وليس له مال فأنفق عليه من بيت مال المسلمين.
3- ولا زال معنى التسامح الفكري محل تقديرِ، دولة الإمارات فقد سنت قانونًا لمكافحة الكراهيّةِ والتمييز يُجرِّمُ كافّةَ أشكال ازدراء الأديان وخطابات الكراهية والتكفير وكذلك قرار حرمة المساجد.
رابعًا: شهد كثيرٌ منْ علماء الغرب بتسامح الإسلام والمسلمين، اذكر مثالا على ذلك.
شهد كثير من المستشرقين المعروفين شهدوا للإسلام بالسماحة والعدل مع غير المسلمين على مر القرون. برنارد لويس إنجليزي، وكان يعمل أستاذا للتاريخ الإسلامي في جامعات كاليفورنيا ولندن وغيره كثيرون.